«السرد الوامض» لصالح هويدي: توصيف القصة القصيرة جدا

يتأسس كتاب «السرد الوامض» على أطروحتين مركزيتين، تتمثل أولاهما في ضرورة تجاوز العناصر الشكلية الخارجية للقصة القصيرة، إلى التركيز على خصائصها البنيوية المميزة؛ فيما تتمثل الأطروحة الثانية في الاعتراض على وصف «القصة القصيرة جدا» بالجنس الأدبي القائم بذاته، ليس «لرغبة في الحفاظ على الأسوار الأفلاطونية المتهالكة بين الفنون» ـ كما يقول مؤلف الكتاب صالح هويدي ـ وإنما لأن ذلك التوصيف أُريدَ له أن يخصّ القصة القصيرة جدا وحدها، من بين الفنون القصصية جميعا، والحال أن هذه الأخيرة متفرعة من جنس السرد. ويندرج هذا الكتاب الصادر ضمن منشورات مجلة «الرافد» في حقل ما يُعرف بـ»نقد النقد»، إذ ينخرط في الحراك الذي تشهده الساحة الثقافية العربية، ممثلا في الاهتمام بما يسمى بـ»القصة القصيرة جدا» التي ظهرت في أدبنا العربي الحديث، خلال منتصف القرن الماضي.
ويلفت المؤلف الانتباه إلى أن هذا الحراك النقدي الدائر حول هذا النوع السردي، لم يشكّل ظاهرة لافتة إلا في العقدين الأخيرين، وذلك بفعل المبادرة التي تمخضت عنها جهود بعض الباحثين العرب، وعقدهم سلسلة من الملتقيات الخاصة بالقصة القصيرة جدا في كل من سوريا والعراق والمغرب، منذ تسعينيات القرن المنصرم، بهدف تدارسها والكتابة عنها؛ وهي جهود طيبة، سرعان ما تمخض عنها عدد من المقالات والأبحاث والكتب، لم تلبث أن اتسعت دائرتها، لتشكل خطابا خاصا بهذا النوع السردي.
وجوابا على من يعدّ القصة القصيرة جدا بديلا للقصة القصيرة أو تطورا طبيعيا لها، يقول الناقد العراقي صالح هويدي المقيم في الإمارات: إنّ علينا، كتّابا ونقادا ومثقفين، أن نعي حقيقة أنه لا يمكن لأي نوع أو شكل أدبي أو فني، أن يعوّض عن سواه، أو يكون بديلا عنه. فلكل شكل دوره ووظيفته وتأثيره الذي لا يمكن لسواه أن يحققه. كما أن لكل شكل سردي وظيفته التي يؤديها. فالباعث الذي يحذو قاصا إلى كتابة السرد الوامض ليس نفسه الذي يدعونا إلى كتابة القصة أو القصة القصيرة. من هنا، فإن أجواء وبواعث السرد القصير أو الوامض، خاصة ومحددة. ويضيف المؤلف قوله: إذا كان ثمة كتّاب قصة قد أخلصوا لكتابة القصة القصيرة، سنوات طويلة، فإنه من الصعب على القاص أن يكرّس جهده كله لإنتاج قصص قصيرة جدا، لأن طبيعة الرسائل التي يحملها هذا الشكل السردي خاصة ومحددة، ولها شروطها الموضوعية وليس القرارات الذاتية وحسب.

هوية سردية خاصة

ويلاحظ الكاتب أن هذا الضرب من الكتابة الأدبية أصعب من سواه، لأنه «سرد فاضح» لمن لا يمتلك موهبة قصصية حقيقية، فهو يلزمه اللعب فوق رقعة محددة، وإمكانات مقتضبة، بمهارة رجل السيرك الحاذق، فإما النجومية أو السقوط المدوي. ويؤكد أن لهذا الفن القصصي هويته السردية الخاصة وقالبه المميز وسماته الفنية التي تمنحه تميّزه بين سائر الفنون والألوان القصصية الأخرى. ويعتبر أن هذه الهوية الخاصة تكاد تغيب عن كثير من النماذج التي نقرأها اليوم، لكنها تظل إشكالية قرائية عامة، وربما أدى التراكم الكمّي إلى تهيئة الفرصة لتعميق تلك الهوية. ويميز المؤلف بين نوعين من الخطاب النقدي المصاحب للقصة القصيرة جدا: خطاب نقدي حماسي ينافح عن رؤيته بلغة حماسية ومشاعر عاطفية لا تخلو من مكابرة، وإن خفّ غلواؤها قليلا عمّا كان عليه من قبل، وخطاب نقدي معتدل يجنح نحو الهدوء والمنهجية والبعد عن اللغة الحاسمة والأحكام القاطعة.
في السياق نفسه، يثير صالح هويدي الانتباه إلى اختلاف أطروحات الباحثين في استخدام المصطلحات الدالة على المفاهيم التي يريدونها، اختلاف يصل إلى درجة الخلط بين الملامح والتقنيات المستخدمة في الفنون القصصية جميعها وليس في القصة القصيرة وحدها؛ مما قد يشوّش على الدرس النقدي الذي يهدف إلى التأسيس لهذا الفن السردي. ثم يستدرك بالقول: مهما اختلفنا مع نقاد القصة القصيرة جدا وحماستهم، فإن من الإنصاف القول إنه لأول مرة في تاريخ العقل النقدي الأدبي الحديث، ينتج تراكم الخطاب النقدي العربي حراكا نقديا، تتمخض عنه جهود نظرية وتطبيقية، لترسم ملامح مشروع منهجي ممكن، لخطاب نقدي عربي، يرتقي إلى مستوى الطموح، ويعيد الأمل في إمكانية استئناف دورنا النقدي، بوصفنا أندادا للعقل النقدي الغربي، بغض النظر عن اختلافنا في مدى الحماسة في هذا المشروع وحاجته إلى التطوير والتزام المنهجية والوضوح العلمي.

جدل التسمية

يتوقف الكاتب عند جدل التسمية، فيقول: ربما كان على النقاد الذين يرون في القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا مستقلا ومميزا من القصة القصيرة أن يعدلوا عن المصطلح الذي ارتضوه لهذا النمط السردي للأخذ بأحد المصطلحات الأكثر دلالة على هويتها، المنبثقة من واقع بنيتها الفنية وتشكيل كيمياء عناصرها الخاص. وإذا كانت مصطلحات من قبيل: «الأقصوصة» أو «القصة الصرعة» أو «القصة الكبسولة» أو «الأقصوصة» أو «القصة القصيرة جدا» لا تبــــدو ملائمة ـ في رأي المؤلف ـ فإن ثمة من اقترح مصطلحات أخرى، عبّر كل منها عن خصيصة من خصائصها الداخلية مثل «القصة اللقطة» أو «القصة اللوحة» أو «القصة الصورة»، إذ تبدو الأكثر انسجاما مع تصورهم لبنية الشكل الجديد، لأن الإصرار على التسمية لا يبدو موفّقا أو دقيقا، بقدر ما كان عنصر تشويش على هذا الشكل الجديد، وعلى موقفهم مما كانوا يأملونه، لسبب بسيط يتصل بما في هذه التسمية من حمولة تحمل إيحاء واضحا بعنصر القِصَر «الكمّي» مانحة إياه ثقلا أساسيا، من دون أن يكون الميزة الجوهرية لهذا النوع القصصي.
ويعرب هويدي عن أمله لو أن التسمية جنحت لصالح تسمية «السرد الوامض»، لما في ذلك من تركيز على أبرز خصيصة مميزة فيه، وهي خصيصة بنيوية (داخلية)، وليست شكلية (خارجية)، فلقد قاد التكثيف والإيجاز وشحن الدال بحمولة دلالية إضافية، إلى إنتاج هذا الشكل السردي الجديد، وليس حجم هذا الشكل الجديد وحده (القِصر). لكن المؤلف يشدد على أنه لا يقترح تسمية، فقد مرق السهم واستقرت التسمية، وسبق السيف العذل، كما يقول المثل العربي.
هذا على المستوى النقــــدي، أما على المستوى الإبداعي فبحكم التكثيف الشديد لفضاء السرد القصير، يدعو المؤلف الأدباء إلى عدم رهن نتاجهم بهذا النوع القصصي من دون أن يلجأوا إلى التنــــويع في كتاباتهم، ولاسيما أن الفنون الإبداعية ـ في جانب كبير منها ـ هي استجابات لإيقاع الحياة ومقتضيات الحاجة.

ذات صلة